مقدّمة


إنها لمعجزة حقّاً.. أنْ يقفَ شاعرٌ مهجريٌ، لغتُهُ الأولى والثانية والثالثة والرابعة العربية، ليتكلمَ بلغتِه الأم عن رحلتِـه الأدبيــةِ أمامَ طلاّبِ وطالباتِ جامعة مكارثر الأُسترالية.
وبما أنَّني أؤمن أنّ زمنَ المعجزاتِ قد ولّى إلى غيرِ رجعة، وجب عليَّ الإعتراف بأنني عاينت على أيديكم معجزة ولا أحلى.. فألف شكر لكم يا طلاب وطالباتِ جامعةِ مكارثر.. وألفُ شكرٍ للسيّدة روز ماري سليمان وللاستاذ عصمت الأيّوبي ولكل من عَمِلَ على تحقيقِ حلم زرع أدبِنا الإغترابيِّ الناهضِ في الجامعاتِ الأستراليّة. إنّها خطوة مشرفة سيسجل التاريخُ وقعها بدموعه الذهبيّة، وسيوزع الثناء على كل من مشاها.
ولكي أُعبر عن امتناني اللامحدود لكم، سأطمئنكم بأنني لن أطيل كلامي كثيراً.. لأنني بِطبعي أكره الوعظ، خاصة بحضور أناس تعبت آذانهم من سماع عشرات المحاضرات.
لماذا أكره الوعظ؟!.. لأنني عانيت الكثير من وعظات أحد الخوارنة، الذي لا يعرف من الدين المسيحي سوى صفحاتٍ مملة حفظها عن ظهر قلب، وأصر أن يسمعنا إياها، يومياً، في القدّاس الإلهيِّ.. فيبدأ النعاس باغتيال الناس، ويبدأ الشخير بالعزف على أعصابنا.. وكثيراً ما كان الشخير يحجب عن المؤمنين من أمثالي، ثرثرة هذا الكاهن (البشريّة).. كي لا أقول (الإلهيّة).
وأذكر أنني واجهته بالحقيقة، وقلت له:
ـ أنت مضجر يا أبانا.. فإذا كانت صلاتك مضجرة هكذا.. أنصحك بالتفتيش عن طريقة تقربك من اللـه أكثر، لأنني متأكّد من أنَّ اللـهَ غاضب منك.
فالتفتَ إليَّ وقال:
ـ إسمع يا شربل.. أنا أعرف تماماً أنك شاعر مشعور.. ومثلك كمثل الجمجمة التي وجدها اثنان من أبنـاءِ القريةِ. فقالَ الأولُ للثاني: تعالَ نَضْرِبْها على الحائطِ لِنَعْرِفَ ما إِذا كانَتْ جُمجُمَةَ رجلٍ أم جمجمةَ امرأةٍ. فضَرَباها فَلـمْ تنكسِرْ، فقالا: إنها جمجمةُ امرأةٍ.. وَلِكَيْ يَتأكَّدا أَكثر، ضرباها مرةً ثانيةً فلـم تنكسرْ أيضاً، فصاحا: إنها جمجمةُ شاعرٍ مجنون.
هــل تعتقـدون أنني حزِنتُ لسماعي مثــلَ هذا التجريحِ؟.. لا واللـه، فلقد سررتُ جداً جداً.. لأنني أدركتُ أن هذا الكاهنَ يَعْرِفُني أكثرَ من غيرهِ.. وإلاَّ لما عرَفَ أَنّ جُمْجُمَتِي لا تنكسِرُ بسهولةٍ.. ولن تنكسرَ بإذنِ اللـه.
من هنا بدأت رحلةُ المشقّاتِ عندَ شربل بعيني.. رأَيْتُ الوطَنَ العربيَّ يعيشُ خارجَ العالَـمِ المتحضِّرِ.. رأيتُ أربعينَ علي بابا يحكُمُونَهُ.. وبِضْعَةَ مَلايينَ من رجالِ المخابراتِ يتلاعبونَ بأَفْلاذِ أكبادِهِ.. وفتاوى رجالِ الدينِ تتضاربُ كالشَّظايا لتفجر استقراره.. ورأيتُ الأقلامَ تتذلَّلُ، لا مِنْ أجلِ لُقْمَةِ عيشِها، بَلْ مِنْ أَجْلِ رفاهيتِها وامتلاكِ الملايين.. واكتشفتُ أن الرجالَ والنساءَ يتباهَوْنَ بالعفافِ جَهْراً ويُمارسونَ الرذيلةَ سرّاً.. فجننت وأقسمت كشاعرٍ (مجنون)، أن أُغيّرَ الكونَ بقصيدةٍ، بمقالٍ، بكلمةٍ، بلعنةٍ، فنشرتُ (مراهقة) و (قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة) و (يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط).. ولـم أكنْ أُدْرِكُ أَنَّ الآذانَ والأعينَ تتربصُّ بي.. وأنَّ قولَ الحقِّ في وطنٍ مَبْنـيٍّ على الكذبِ والنّفاق، والعشائريَّةِ المنغلقَةِ، والطائفيةِ البغيضَةِ، والمتاجرةِ باسمِ اللـه، وتأليهِ الزعاماتِ، وبيعِ الأدبِ لكلابِ الحكّامِ.. سيوصِلُني إلى المقبرةِ.. أو إلى النفيِ.. وصدّقوني أنَّ حظّيَ كان أَقْوَى مِنِّي، وإلاّ لما كنت الآن بينكم.
إذن، عليكَ أن (تسد بوزك) تماماً فِي الْوَطَنِ العربيِّ، فإن أنتَ انتقدتَ الحاكمَ وزمرته.. إقرإ الفاتحة عن نفسك، لأنَّ لا أحد ـ إن تمكنوا منك ـ سيقرأُها على جثمانك الطاهر، وإن أنتَ انتقدتَ رِجالَ الدينِ الذينَ يسخِّرونَ الدينَ لمصالحهم الدُّنيَويَّةِ.. وبالتحديدِ أولئكَ الذينَ شجّعوا الناسَ في كنائسِهِم وجوامعهم على قتل بعضهم البعض.. أَنزلوا اللـهَ على الأرضِ ورموك بالكفر!!..
فتصوَّروا إنساناً يكفر إنساناً آخرَ، ويستبق حكم اللـهِ عليْهِ، بربكم ماذا سيفعلُ اللـهُ بِهِ؟
وإنْ أنتَ انتقدتَ أعداءَ بلادِكَ، الذينَ يلهبون أرضك وسماءك بقنابلهم العنقوديَّة، ويقضون على الآلاف من أبناءِ شعبك الآمنين دون أن يرفَّ جفن حاكم عربيٍّ واحدٍ أو دون أن تُطلقَ رصاصةٌ طائشةٌ على ذلكَ العدو المغتصبِ من قبلِ جيوشنا العربيّة الجرّارة.. إتهموكَ بالعمالةِ لذلكَ العدو.
راجي بك الضاهر، الذي رآهُ جبران خليل جبران يسخِّرُ أبناءَ قريتِهِ لبناءِ قَصْرِهِ الكبيرِ الفَخْمِ مجاناً.. ما زالَ يبنِي قَصْرَهُ فِي كلِّ قريةٍ من قُرانا.. ليس بالحجارَةِ الْجَبَليَّةِ فحسب، بَلْ بالجماجمِ البشريَّة أيضاً.
فكيفَ تتصرَّفُ؟!.. والحُكَّامُ ضدَّكَ، ومعظم رجال الدّينِ المَلاعينِ ضدَّكَ.. وخلفَهُمْ يسيرُ جيشٌ عرمرم من الطائفيّينَ البُلَهاءِ الضَّالِّينَ.. وقدْ لا أذيعُ سرّاً إذا قلتُ أنَّ بينَ هؤلاءِ الطائفيينَ تسعينَ بالمئةِ من أساتذةِ الجامعاتِ والأدباءِ والشعراءِ والصحفيينَ وهلمَّ جراً..
ولهذا السبب تعيشُ دولُنا العربيّةُ عصرَ جاهليتِها.. هولَ انحدارِهَا.. جريمةَ تخلُّفِها.. وَقِمَّةَ بؤسِها.. فإذا كانَ الجهلُ يلفّ عقول مثقفينا.. فلا حياةَ لمن تنادي.. وستصدق نبؤة نزار قباني حين تساءلَ: متى يُعلنونَ وفاةَ العرب؟
كن مؤمناً بربِّك، ربِّ المحبَّة والتَّسامح. مارس شعائرك الدينيِّة، صلِّ بحرارة.. ولكنْ إيّاكَ أن تكونَ متعصِّباً أعمى يرمي الآخرينَ بالكفرِ!.
فالناصريُّ قال: لا تدينوا لئلاَّ تدانوا..واليعربي قال: حسبَ نواياكم ترزقون، ولا إِكْراهَ بالدِّينِ.. فَصَدَقَ الأنبياءُ وكذِبَ الآخرونَ.
في شعري، حاربت المتعصب، وطلبتُ من اللـه أن لا ينصره.. وخاصَّةً إذا كانَ جامعياً وقد نهل من المعرفة الأنهر والبحار.
هكذا بدأت الثورة تتأججُ في شعري.. وكنت كلّما نفسّتُ عنها، كانت الأعينُ تزدادُ اتساعاً.. وكانت الألسُنُ تَقْذِفُ الخوفَ والتهديدَ في أُذُنَيَّ.
وأمامَ تهديداتهم ومطاردة كلابهم.. عليــك أن ترحل وأن تفتِّش عن وطن يؤمن بحقك بالعيش الكريم.. يساعدك على ممارسة شعائرِك الدينيّةِ في أماكنِ عبادتِــكِ أوْ في الحدائـقِ العامّةِ، لا فرق، دونَ خوفٍ أو رعدة.. ويشجِّعك على تعليم أطفالك لغتك الأمّ دون أن يتهمك أَحد بالتخطيط لمحو لغة البلاد الأصليَّة.. تماماً كما حصل مع أحد أبناء الطَّائفة الأشوريَّة في بلد عربي، حين اعتقل بتهمة التخطيط لمحو اللغة العربيّة من الوجود بسبب تعليمه اللغة الأشوريَّة لحفنة من أطفال طائفته.
أستراليا.. تدفع الملايينَ من أجلِ استغلالِ لغاتِنا الحيَّة والإستفادةِ من حضاراتنا الغارقةِ بالقدمِ.. وشرقُنا العربيّ يعتقلُ معلماً عربياً أراد نشرَ حضارته ليس إِلاّ.
مسيحُنَا بشَّرَنا بالمحبّةِ، وطلـبَ منَّـا مُسامـحةَ أعدائِنا ومُباركةَ لا عينينا.. وبعضُ أتباعِهِ الطّامعينَ بالْجنَّةِ ذبحوا المسلمينَ على الحواجزِ.. لا لشيءٍ.. سوى لأنَّهُمْ مسلمونَ.. هكذا واللـه!.
نبينا العربي العظيم دعا أتباعه إلى تعلم اللغَةِ السريانيّةِ التي منها أَخَذَ اللـهُ اسم قرآنه.. فكلمة (قرآن) تعني الكتابَ بالسريانيّة.. وشرقنا العربيُّ باسم القرآن يحارب كلَّ ما أحبَّه ومن أَحبهم النبيّ، وها هم بعض أتباعه في أستراليا يدعون المسلمينَ إلى عدم مصافحةِ المسيحيينَ، لأنهم كفّارٌ، وتناسوا أن من أنجبت لنبيِّنا ابنه (إبراهيم) كانت مسيحيّة، وبقي اسمها (ماريا القبطيّة).
لقد تناسى هؤلاءِ الرجالُ أنَّ الخليفةَ الثاني عمر بن الخطَّاب عند افتتاح بيت المقدس، رفض أن يصلِّي في كنيسة القيامة، لا كرهاً بها، بل خوفاً عليها من أن تتحوَّل إلى جامع.
هذا هو الدين الذي ناديت به في قصائدي (دين المسيح ومحمد وعلي وعمر وماريا القبطيّة).. وهذا هو الدينُ الذي يجب أن تبشّروا بِهِ وتعمَلوا من أجلهِ، إذا فكّرتُـمْ حقّاً بمعاينة وجه اللـه في اليوم الأخير.
إذن ، وبعدَ اضطهادي في وطني، رحلتُ عنه، والدمعةُ تُدمي عينيَّ، ولسانُ حالي يردِّدُ: سأكتبُ وأكتبُ علَّنِي أعودُ إلى وطنٍ مِثاليٍّ أهدى الحضارةَ والإيمانَ للعالـمِ أجمع.
صحيحٌ أنني طُعِنْتُ في صميمي حين طَلَبَ مني موظَّفُ السفارة الأستراليةِ، في مطار بيروت، خلعَ حذائي وارتداءَ حذاءٍ جديدٍ كي لا أُدخِلَ إلى بلادِهِ جراثِيمَ هُمْ بغنىً عنها.
صحيح أنهم بخّوني في الطائرة كما تبخّ الحشرات.. ولكنني وجدت في أستراليا الوطن الحلم، رغم الإباحيَّة ورغم المجازر البشريَّة التي يرتكبها أنـاس معتوهون، أساءوا فهم الحرية المعطاة لهم، فارتكبوا من خلالِها مجازرَ لـمْ يسمعْ بها ابنُ العصرِ الحجريِّ ولا البرونزيِّ ولا الفَخّاريِّ ، وأَعتقدُ أنَّ أوانَ تطبيقِ قانونِ الإعدامِ قدَ حانَ لِيَنالَ كُلُّ مُجْرِمٍ جزاءَه.
أستراليا.. كانت نافذتي على الحريّة.. فلا اعتقالات ولا تهديدات ولا دواليب.. كتبتُ فيها ما أحببتُ أن أكتبَهُ في بلادي الأم. كتبتُ فيها: مجانين، أللـه ونقطة زيت، كيفَ أينعتِ السَّنابلُ، مناجاة علي، قرف.. وغيرَها من الدواوين الشعريّةِ التي لا تعيش إلاّ في مُناخٍ صافٍ من الحريّة.
وها هم طلابُ وطالباتُ جامعةِ مكارثر يفلفشونَ صفحاتِ تلكَ الكتبِ ويسلطون الأضواءَ عليها.. فهلْ هناكَ من سعادةٍ توازي سعادتي.. لا واللـه.
شربل بعيني
**